أرانج كيشافارزيان، أستاذ مشارك في قسم الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية في جامعة نيو يورك. تستكشف أبحاثه وتعاليمه السياسات والاقتصاد السياسي لمنطقة الشرق الأوسط الحديثة، وبالتحديد، إيران، والخليج العربي، وشبه الجزيرة العربية. لديه العديد من الدراسات المنشورة مثل 'بازار' و'الدولة في إيران' بالإضافة إلى مقالات عن التطور العمراني الحضري، والسلطوية، وتشكيل الدولة، والاقتصاد السياسي للتجارة والتهريب، بمجلات علمية عديدة، مثل: السياسة والمجتمع، السياسية الجغرافية، المجلة العالمية لدراسات الشرق الأوسط، الاقتصاد والمجتمع، المجلة العالمية للأبحاث الإقليمية والعمران. كما أنه عضو في اللجنة تحرير تقرير الشرق الأوسط (MERIP). وأحدث إصداراته، كتاب 'خلق المزيد من المساحات في الخليج'، الذي يبين التحولات التي حدثت في مجال الاقتصاد السياسي العالمي في القرن العشرين من وجهة نظر البيئة المبنية، وطرق التجارة والهجرة، والمفاهيم المختلفة والممارسات الناتجة عن السلطة السياسية.
نص الحلقة:
م.ف.: معكم مهناز فانسي، مديرة الاتصالات والعلاقات الخارجيّة في ترينالي الشارقة للعمارة. ويأتي تدويننا الصوتي (بودكاست) ليومنا هذا جزءاً من السلسلة الثانيّة من برنامجنا "حوارات ترينالي الشارقة للعمارة"، بعنوان "عمارة وأكثر: المدينة". ومن خلال هذه الحوارات، فإننا نهدف إلى استكشاف الشكل الحضري لمدن الخليج من وجهات نظر متعدّدة التخصّصات.
يسرّني أن أرحب بضيفنا اليوم، الدكتور أرانج كيشافارزيان الذي ينضم إلينا من نيويورك. ويُشرّفني أنه أقدّمه لكم بإيجاز، حيث يعمل الدكتور أرانج كيشافارزيان أستاذًا مشاركًا في دراسات الشرق الأوسط والدراسات الإسلاميّة في جامعة نيويورك. وتستكشف أبحاثه التدريسيّة ومنشوراته السياسة والاقتصاد السياسي للشرق الأوسط الحديث مع التركيز بشكلٍ خاصٍ على الخليج وشبه الجزيرة العربيّة. وقد ساهم في العديد من المجلّات، نذكر منها: "السياسة والمجتمع"، و"الجغرافيا السياسيّة"، و"المجلة الدوليّة لدراسات الشرق الأوسط"، و"الاقتصاد والمجتمع"، و"المجلة الدوليّة للبحوث الحضريّة والإقليميّة". ويحمل مشروع كتابه الحالي عنوان "خلق المزيد من المساحات في الخليج" Making Space for the Gulf حيث يرصد التحوّلات في مجال الاقتصاد السياسي العالمي على امتداد القرن العشرين من وجهة نظر البيئة المبنيّة، وطرق التجارة والهجرة، والمفاهيم المختلفة والممارسات الناتجة عن السلطة السياسيّة.
صباح الخير دكتور أرانج كيشافارزيان. نشكر لك تخصيصك الوقت للتحدّث إلينا اليوم.
أ.ك.: صباح النور. يسرّني أن أكون معكم وأن أشارك في هذه المبادرة الرائعة.
مهناز فانسي: نأمل من خلال حوارنا معك اليوم أن نعرف المزيد عن أبحاثك ومساهمتك في هذا المجال المتنامي لدراسة مدن الخليج. لذا أودّ في البداية أن أستوضح عن منهجيّتك أو إطار عملك. ففي كلتا مقالتيك اللتين شاركك كتابتهما أليكس بودكراس Alex Boodkras والمعنونتين: "حدود التمدّن الأبدية" The Forever Frontier of Urbanism في عام 2018، و "تأريخ العناصر العابرة للحدود الوطنية" Giving the Transnational a History في عام 2019، فإنك تُقدّم مراجعة أدبيّة للمجال النامي، حيث تُقسّمه إلى ثلاث فئات واسعة بشكل أساسي، وهي: الأدبيّات عن حالات النفط والتي يقدمها الاقتصاديون وعلماء السياسة، والدراسات الإثنوجرافيّة التي يقدمها علماء الأنثروبولوجيا، والتحقيقات الحضريّة التي يقدمها المعماريون والمؤرخون. وسؤالي هو، كيف تُثري هذه المجموعة الخاصة من الأبعاد الاختصاصيّة عملك كخبير اقتصادي سياسي وتُغنيه، ولماذا يأتي بحثك ضمن هذه الأطر؟
أرانج كيشافارزيان: نعم، هذا سؤالٌ جيّد. يمكنكِ اعتباري دخيلًا قليلًا هنا: فأنا لستُ معمارياً، ولستُ مخطِّطاً حضرياً، بل أتناول موضوع المدن الخليجيّة من منظور محاولة فهم المجتمعات الأكبر التي تُعدّ هذه المدن جزءً لا يتجزأ منها. لذا، كما ذكرتِ، فنحن في لحظة مثيرة للغاية في دراسة التمدّن الخليجي بشكل عام. وفي الواقع، لدينا مجموعةٌ رائعةٌ من الباحثين الشباب (ليسوا صغارًا جدًا بالعمر)، الذين يعملون في الجامعات ومراكز الأبحاث في منطقة الخليج، وكذلك في الخارج في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وينظرون إلى الخليج بأعينٍ جديدةٍ كليّاً، حيث يطرحون مجموعاتٍ جديدةً من الأسئلة، ويدرسون الأرشيفات الجديدة ويستفيدون منها - سواء كان ذلك لاستكشاف تاريخ التجارة والتبادل التجاري في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أو للنظر في اقتصاد النفط من منظور أطول زمنياً ودراسة المدن والبلدات النفطيّة (التي سأعرّج عليها بعد قليل)، أو لتقديم تاريخ يمكن تسميته بالتاريخ العابر للحدود الوطنية أو حتى التاريخ العالمي لمدن الموانئ هذه.
وبُمجرّد أن نُمعن النظر في مدن الموانئ، وبلدات الواحات، فسرعان ما تبدو متشابكة بشكل وثيق مع بعضها البعض من ناحية، ومرتبطة ارتباطاً وثيقاً أيضاً من خلال شبكات معقدة، يمكننا أن نُسمّيها، شبكات عالميّة. وكانت بعض هذه الشبكات تمتد شرقاً إلى شبه القارّة الهنديّة، وصولاً إلى جنوب شرق آسيا وما وراءها، أو جنوباً إلى شرق إفريقيا – وأشهرها زنجبار – كما أنها ارتبطتْ ارتباطاً وثيقاً لمدّة قرن أو أكثر بالمصالح الاقتصاديّة الغربيّة أو المصالح الإمبراطوريّة إذا شِئتِ، وعلى وجه الخصوص، مع بداية التنقيب عن النفط في بداية العقد الأول من القرن العشرين.
لذا، بصفتي عالماً سياسيّاً أو اقتصادياً سياسيّاً، فقد انجذبتُ إلى هذه الأدبيات، حيث استفدّتُ من الأدبيات المتنوّعة التي كُتبتْ مؤخراً عن الهجرة، وتاريخ النفط، وتطوّر المراكز الحضريّة. ومن هذا المنظور الخاص، تكشف مدن الخليج، بالنسبة لي، عن العديد من النضالات والنزاعات المختلفة على الموارد بين الأشخاص الذين يعيشون في هذه البلدات الفرديّة. لذا، فإن النضالات التي تحدث في الكويت أو بوشهر أو الشارقة أو الدوحة تُجسّد النزاعات والنضالات التي تربط هذه المدن بأماكن أخرى: النضال لجلب العمالة من مكان إلى آخر، وجلب الخشب من مكان إلى آخر- وهو مكوّن أساسي من مكونات البناء – وكذلك الأمر بالنسبة لمياه الشرب. لذا، فهذه هي الطريقة التي أتعامل بها مع هذه المدن الخليجيّة، حيث أنظر إليها على أنها تحمل نوعاً من الترابط بين المستويات الوطنيّة والإقليميّة والدوليّة وكذلك العالميّة.
وللتعبير عن المسألة بطريقةٍ أخرى، فأنا مهتمٌ بالتمدّن كعمليّة اجتماعيّة، أكثر من المدن كتكوين أو مجرّد مشاريع أو تكوينات معماريّة صرفة في حدّ ذاتها. علاوةً على ذلك، فأنا شخصٌ يتعامل مع الخليج كمساحةٍ اجتماعيّة، وليس مجرّد ممرٍ مائي، أو حدودٍ دوليّة، أو نوع من الكتلة الإقليميّة المحدّدة بوضوح، أو دول مجلس التعاون الخليجي، أو أي شيء من هذا القبيل. لذا، فأنا مهتم بكيفيّة انتقال الأشخاص والأفكار والممارسات عبر الخليج بين الأجزاء الشماليّة والجنوبيّة من الخليج، وبين المدن المختلفة، وكذلك بالطريقة التي يرتبط بها الخليج بموضوع ظهور التصنيع الرأسمالي، وتشكيل الدول القوميّة، والتحوّلات من النظام العالمي الذي تقوده بريطانيا إلى الاقتصاد العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكيّة بعد الحرب العالميّة الثانية.
م.ف.: هل يمكنكَ أن تعطينا فكرةً عن كيفيّة تعريفك للقرن العشرين الطويل في هذا السياق؟ أعتقد أن هذا سيُساعد قليلًا في تأطير الحديث.
أ.ك.: هذه نقطةٌ جيدة. حسنًا، ليس لديّ علامات زمنية واضحة جداً، ولكن بالنسبة لي، فإنّ التحوّلات العميقة حدثتْ في نهاية القرن التاسع عشر، حيث نرى فيها من ناحية جهاز الإدارة الاستعماريّة البريطانيّة الهنديّة وهو يُظهر اهتماماً مباشراً أكثر بالأحداث في البلدات والمناطق النائيّة. وفي مرحلة لاحقة، وتحديداً في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، أصبح الاهتمام يميل جزئياً نحو النفط، ولكن قبل ذلك أيضاً هناك القضايا المتعلقة ببناء المطارات والسفر الجوي، وكذلك حماية بعض المصالح التجاريّة التي كانت لدى التجار البريطانيين الهنود. كما أن هذا الاهتمام مرتبطٌ إلى حدٍ ما بالتراجع الذي حصل في قطاع صيد اللؤلؤ، مما خلق بعض الاضطرابات. وهو مرتبط كذلك بمحاولة إنهاء العبوديّة في المنطقة. ولكن بمجرّد أن فعل البريطانيون ذلك، فقد أطلقوا العنان لسلسلة كاملة من القوى الأخرى: قوى يقودها حكّام المنطقة الذين يحاولون اكتساب السيادة والسيطرة، حيث نرى هذا في إيران، وفي الكويت والبحرين، وأماكن أخرى وُجدتْ فيها حركات تحاول صياغة شكل جديد من السياسة، والتي يُشار إليها في كثير من الأحيان باسم "حركات المجلس" أو الحركات التي تسعى لخلق شكلٍ أكثر شفافيّة وتشاركيّة للحكومة.
لذلك، بالنسبة لي، أرى تداخلًا بين أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث خُلقتْ حقبة مختلفة تماماً عن أوائل القرن التاسع عشر. وأنا مهتم بالتحوّل من هذه اللحظة حتى بداية إنشاء دول قوميّة ذات حدود إقليميّة محدّدة بشكل أكثر وضوحاً، وبتضمين مباشر أكثر لهذه الاقتصادات في الاقتصاد العالمي - سواء كان ذلك من خلال تصدير النفط، ولكن أيضاً مالياً من خلال الارتباط بالجنيه الإسترليني البريطاني أولاً ومن ثم بالدولار الأمريكي لاحقاً.
م.ف.: هذا يُساعد في رسم الإطار العام، لا سيما بالنظر إلى تلك المرحلة من تاريخ العالم حيث أتت الحرب العالميّة الأولى، والحرب العالميّة الثانيّة، ومن ثم إنهاء الاستعمار.
أنت ترى جنباً إلى جنب مع عددٍ قليلٍ من الباحثين الآخرين أن هذه المدن الخليجيّة بحاجة إلى نفي صفة الاستثناء عنها وإعادة تأطيرها بعيداً عن رؤية مدن الخليج باعتبارها "مدن المستقبل"، أو مدن نشأتْ بشكل إعجازي من قلب الصحراء بفعل بعض القوى الفريدة التي قدمها النفط والدولار. وبدلاً من ذلك، فإنّك تقترح أنّ هذه الرؤية بحاجة إلى إعادة صياغة سياقها من حيث العلاقة مع المياه، والتاريخ الإقليمي لمدن الموانئ الذي تحدثتَ عنه للتو، والتجارة العابرة للحدود الوطنية في المحيط الهندي والتي كانت موجودة قبل وصول اقتصاد النفط بوقت طويل. لذا، سيكون من المثير للاهتمام معرفة الجهات الفاعلة العابرة للحدود الوطنية التي تم استبعادها من رؤية مدن الخليج هذه وما هي العواقب التي قد تترتّب نتيجة ذلك على البُعد الاجتماعي لهذه المساحات الحضريّة.
أرانج كيشافارزيان: إن توصيفكِ للأدبيات فطنٌ للغايّة ويُصيب عين الحقيقة. وأودّ القول بأنه بالعودة حوالي 10 أو 15 عاماً إلى الوراء، كانت القصّة القياسيّة التي رويناها عن هذه المدن الخليجيّة وهذه البلدان هي أنها كانت أساساً بمثابة المياه الراكدة لتاريخ العالم. وقد ذكرتِ للتو موضوع إنهاء الاستعمار، حيث لا نُفكّر في حركات الاحتجاج في العشرينات والثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات والستينيات في الخليج كجزء من النضال من أجل إنهاء الاستعمار، إلا أنها كانت كذلك. لذا، ما كنتُ أفعله، وكذلك الكثيرون غيري كما قلتِ في السنوات العشر أو الخمس عشرة أو العشرين الماضيّة، هو إعادة النظر في هذا التاريخ. وبمجرّد أن نعيد النظر فيه من خلال طرح مجموعات جديدة من الأسئلة والأرشيفات الجديدة، فإنّ ما نتوصل إليه في النهاية هو أن المنطقة مندمجة بعمق في عمليات أكبر، وبالتالي فهي ليست أماكن استثنائيّة.
كما أنها ليستْ مُدناً ظهرتْ فجأةً في قلب الصحراء في السبعينيات نتيجة اكتشاف كميّةٍ ضخمةٍ من الثروة النفطيّة التي تدفقتْ على خزائن هذه المدن. بل كانت هذه البلدات وطوال قرن من الزمن تبتكر طرقًا لتخطيط الحيّز الحضري، حيث كانتْ مدنًا تجاريّة نابضة بالحياة، كما ذكرتِ. لذلك، وبمجرّد أن نتعامل مع هذا الواقع بالفعل، نُدرك أن المهاجرين والعمال (سواء الأحرار أو العبيد) كانوا جزءً أساسيّاً من هذه الاقتصادات: اقتصاد اللؤلؤ، والاقتصاد التجاري أو اقتصاد السلع في القرن التاسع عشر، وحتى قبل ذلك بالطبع.
علينا أن نسعى لفهم تحرّكات الناس ذهاباً وإياباً بين الجزء الشمالي من الخليج والجزء الجنوبي منه، والتي تكون موسميّة للغاية في كثير من الأحيان. حيث يُصبح من الصعب جداً تصنيف الناس على أنهم عرب أو فارسيّون أو جنوب آسيويون أو إفريقيون – فقد اختلطوا بطرق معقّدة كثيرة. ومن خلال الاستعانة بأعمال العديد من المؤرّخين، فإنني أرى هذه المجتمعات على أنها مجتمعات "ساحليّة": مجتمعات تميّزتْ بشكل أساسي بالمحيطات أو المناظر البحريّة، وبكون أهلها سكان الخليج أو كما نقول بالفارسيّة، "بانداري"، أي شعب الموانئ. وهذا ما يُميّزهم ويجعلهم متميّزين عن سكان المناطق الداخلية، ولكن ما يُوحّدهم أيضاً حتى عبر الخليج العربي أو امتداد المحيط الهندي. لذا، فإن الشيء الوحيد الذي تم استبعاده حتى وقت قريب هو هذا المجتمع الساحلي شديد الترابط اجتماعياً وحتى ثقافياً، والذي يُستعاد مرةً أخرى.
من خلال نفي الصفة الاستثنائية عن منطقة الخليج، يظهر هناك جانب آخر لهذا الأمر وهو أن نتذكّر أن صناعة النفط ليست مجرد مفتاح صغير تمّ تشغيله في عام 1970 مع بدء طفرة النفط، على سبيل المثال، أو ما كان يُطلق عليه فيما مضى "ثورة النفط"، وإنما كانت هذه مدن شركات، وهي مدن للاستكشاف تعود إلى السنوات الأولى من القرن العشرين والتي أدّت إلى بناء عبادان، وهي مدينة نفطيّة رئيسيّة في جنوب إيران، كما أدّتْ إلى بناء الأحمدي في الكويت، والعوادي في البحرين، وطبعاً الظهران في السعوديّة. ويعود تاريخ جميع مدن وبلدات الشركات هذه إلى عقودٍ عديدة، حيث أشار عددٌ من المؤرّخين الحضريين إلى أنه يمكننا رؤية آثار التخطيط والتوزيع والتجزئة الحضريّة في مدن الشركات هذه، وكذلك استخدام الحيّز المكاني والبيئة المبنيّة لتقسيم السكان إلى فئات واضحة، حيث تم وصفهم في بعض الحالات في العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي بأنهم يُقسّمون حسب "مجموعات المهارات" المختلفة، وهي: الإدارة، والمهارة المتوسطة، وشبه المهارة، والمهارة المتمكّنة، ولكن سُرعان ما كشفتْ الوثائق أن ما كان يُسمّى "مهارة" كان يدلّ في الحقيقة على العرق والإثنية. لذلك، كانت مدن الشركات الصغيرة هذه في الواقع تضم أشخاصاً مختلفين تم تقسيمهم على أساس "العرق والاثنية". لذلك، عاش العرب منفصلين عن جنوب الآسيويين، وعن البريطانيين، والأمريكيين.
م.ف.: أين توجد هذه الأرشيفات التي تُجري عليها أبحاثك وأين تجد هذه الوثائق؟ في الأساس، هذه إحدى الصعوبات التي نواجهها كلنا كباحثين في هذه المنطقة، حيث لا توجد لدينا بالضرورة أرشيفات في هذه البلدان. أين وجدتَ خاصّتك؟ وإلى أين يلجأ الباحثون في هذا المجال؟
أ.ك.: بصفتي عالماً سياسياً، يتحتّم عليّ إلى حدّ ما أن أختبئ وراء المؤرّخين وأستفيد من قيامهم بعملهم الحقيقي في سبر الأرشيف. كما قمتُ بنفسي ببعض الأعمال الأرشيفيّة في الأرشيف الوطني البريطاني، على سبيل المثال، وإلى حدٍ ما في الأرشيف الإيراني، ولكن العمل الجيّد حقًا الذي أستخدمه هو من صُنع أشخاص مثل ناليدا فوكارو، وريم العيسى، وروبرت فيتاليس عن المملكة العربيّة السعوديّة، وكافيه إحساني عن عبدان، والعديد غيرهم - نسيتُ بعض الأشخاص هنا – هم يعتمدون في عملهم على أرشيفات موجودة لدى أرشيف شركة بريتيش بتروليوم، أو ما كان يُعرف سابقًا بأرشيفات النفط الأنجلو-فارسي، وفي أرشيف أرامكو. لذا، فإن بعضاً منها يعود إلى أرشيف الشركة وكذلك إلى الأرشيف الوطني لبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكيّة. وغالبًا ما تتّسم هذه الوثائق التي يعود تاريخها إلى ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين بالشفافية الكبيرة. لذلك، فإنّ هذا مفيد جداً، ولكن يجب أن أذكر أيضاً أن المؤلّف المشارك أليكس بودكراس، كان يقوم بالكثير من العمل في الكويت. وإحدى النقاط التي أشار إليها – وأعتقد أن ناليدا فوكارو وفرح النقيب أشارتا إليها أيضاً – هي أن الصحافة المحليّة من الخمسينيات والستينيات، خاصة في البحرين والكويت، كانت مليئة بالمقالات التي تُناقش مواضيع الأمل في التخطيط الحضري والحياة الحضريّة والحداثة الجديدة، وكذلك الاحتجاجات وعدم المساواة. لذا، فإن الكثير من الصحافة المحليّة، التي لم يتم استخدامها كثيراً للأسف، هي أيضاً مصدرٌ غنيٌ للمواد حول الحياة الاجتماعيّة في مدن الموانئ هذه، والتي تُعطي صوتاً لوجهات النظر المحليّة والاهتمامات المحليّة.
م.ف.: إنه لأمر مدهش أن نرى كيف تتحدّث هذه الحركات عن هذا الترابط والشعور بالولاء الذي يتجاوز ما أصبح رسمياً فيما بعد حدوداً وطنيّة.
لذا، كمتابعة، أشعر بالفضول حيال ما تقصده عندما تقول "الخليج هو الحدود التي تُشكّل جزءً لا يتجزّأ من الرأسماليّة العالميّة والعمران"؟ ومن وجهة نظرك، ما هي التحوّلات السياسيّة والاقتصاديّة الرئيسيّة التي ميّزتْ مراحل تطور مدن الخليج، وما هي الطرق المحدّدة التي تجلّى فيها صعود اقتصاد النفط في هذه المدن؟
أ.ك.: حسناً، بالنسبة لي، كان ينظر بعض الباحثون والمسؤولون الاستعماريون وشركات النفط إلى الخليج على أنه "حدود". لكنها حدود وفق معنيين للمصطلح. فمن جهة، عندما نستخدم مصطلح الحدود، فإننا نفكر في الحدود على أنها المساحة التي يُواجه فيها المجتمع المتحضّر إما مساحةً فارغةً أو مساحةً موحشةً ومتخلفةً بحيث تبدو كما لو كانت فارغة وتحتاج إلى ترويض وتحضّر بطرق مختلفة. ومن الواضح أن هذا الوجه يعود إلى فهم استعماري أكثر تجذّراً، ففي القرن التاسع عشر، كان يُنظر إلى الخليج على أنه حدود للإمبراطوريّة البريطانيّة المتمركزة في جنوب آسيا ومن منظور جنوب آسيا. لذلك، فهذا جزءٌ من الطريقة التي يُنظر بها إلى الخليج تاريخياً على أنه مكان حدودي موحش ومتخلّف، ينقصه النظام والانضباط والمياه، وبحاجة إلى الحماية من القراصنة الجامحين.
ولكن هناك طريقةٌ أخرى يُستخدم فيها وصف "الحدود" في كثير من الأحيان، وهي "حدود العلم"، و"حدود معرفتنا"، وحتى عندما نُفكّر في الفضاء (وربما مع أحداث هذا الأسبوع في الإمارات العربيّة المتحدة) فقد أصبح الفضاء الآن "أحدث حدودنا". لذلك فهو مكان للاستكشاف والتطوير والابتكار التكنولوجي. لذا، يُمثّل الخليج بالنسبة لي أيضاً هذا النوع من الحدود. وفيما يتعلّق بالنفط، أصبح من الواضح في وقت مبكّر جداً وجود حقول نفطيّة غنيّة يُمكن استخراجها بتكلفة رخيصة جداً. لذلك، كان يُنظر إلى الخليج وشبه الجزيرة العربيّة، وما يُعرف الآن بالعراق وإيران على أنها "حدود نفطيّة" بدأتْ في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي.
ولكنني أرى، علاوةً على ذلك، بأنه كان يُنظر إلى الخليج في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي على أنه نوع من "الحدود المعماريّة"، وهو مكان جاء إليه بعد الحرب العالميّة الثانيّة العديد من المعماريين - الشباب - لتطوير عملهم وصُنع حياتهم المهنيّة. ويُعدّ جون هاريس في دبي خير مثال على ذلك، حيث أتى هو وزوجته (كلاهما معماريان) إلى الخليج وأصبحا معماريين بارزين، حيث يقومان بذلك من خلال عملهما في الخليج. وهو مكان يمكنهما فيه تجربة أشكالٍ حضريّة معيّنة، وأشكال معماريّة معينة. وبالنسبة لي، ظهرتْ ابتكارات رئيسيّة في استخدام الأسمنت طُوّرتْ في منطقة الخليج، وحتى تصاميم مراكز التسوق في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي رأتْ النور في منطقة الخليج. وقد ذكرتُ بالفعل مدن الشركات، حيث كان تصميم مدن الشركات قائماً إلى حدٍّ كبير أو مبنيّاً نوعاً ما على أفكار حول مدن الحدائق - المساحات الحضريّة التي ما تزال تحتوي على نوع من المساحات الهادئة والساكنة المتشابكة مع الطبيعة، حيث يمكن للعمال العودة إلى منازلهم - نوع من منازل الضواحي - والابتعاد عن المدينة للتمتّع ببيئة أكثر صحة ونظافة.
وفي مدن الشركات، ما هو مهمٌ هو أن بعض المعماريين والمصمّمين أنفسهم كانوا يُجدّدون في هذه الأفكار في إنجلترا في ذلك الوقت ويفعلون ذلك في المستعمرات أيضاً. لذا، فإن النقطة الأكبر التي أودّ توضيحها هنا هي أنه غالباً ما يتكوّن لدينا الرأي القائل بأن الحداثة أو الابتكارات التكنولوجيّة تُطوّر في العاصمة، وتُنقل لتُستخدم في المستعمرات لاحقاً. ولكن اللافت للنظر هو ما نتوصّل إليه عند قراءتنا للأدبيات الجديدة التي تصدر عن العمارة والتخطيط الحضري، حيث يبدو جلياً أن المناطق التي كانت تُعدّ مستعمرات وأصبحتْ فيما بعد دول العالم الثالث والجنوب العالمي، كانت مواقع لأحدث أشكال التخطيط الحضري المتزامن. لذلك، كانت أماكن للتجارب أو الاختبار أو نوعاً من "الحدود المعماريّة".
م.ف.: هل هذا ما تقصده عندما تصف العمارة وتخطيط المدن على أنهما من "التكنولوجيات" التي تعتمد على الموروثات المتشابكة للحكم الإمبراطوري والرأسماليّة الاستخراجيّة وتستفيد منها؟
أ.ك.: بالتأكيد، إلى حدٍ ما، ولكن ما أُشير إليه حقاً هو أنه علينا أن نتذكّر أن هناك الكثير من المنطق المختلف وراء التخطيط الحضري. وكما ذكرتُ سابقاً، عندما ننظر إلى نوع التخطيط الحضري في مدن الشركات أو في الخمسينيات من القرن الماضي، فإننا نرى أن جزءً من منطق هذه الخطط هو كيفيّة التحكّم في العمالة على وجه التحديد. لذلك، بالنسبة لأرامكو وشركة بريتيش بتروليوم، عندما كانتا تبنيان مدن الشركات، كان المنطق وراء فصل العمال العرب عن عمال جنوب آسيا، والعمال الإيرانيين عن عمال جنوب آسيا، وما إلى ذلك، هو إبقاء هذه الطبقة العاملة منفصلة ومنعها من الانضمام إلى النقابات والاحتجاج، وبذلك تُبقي هاتان الشركتان على تكاليف العمالة منخفضة.
بالنسبة لي كعالم سياسي، فإننا عندما نُناقش التمدن ونُحلّل العمارة، علينا أن تأخذ في الحسبان السياسات الكامنة وراء البيئة المبنيّة. وفي الواقع، فقد ارتبطتْ السياسة وراء هذه الأشكال الحضريّة ارتباطاً وثيقاً بالسيطرة على الأشخاص الذين يُنظر إليهم على أنهم تهديد، أي العمال، "الأجانب"، المهاجرون. وعلى امتداد قرنٍ من الزمن، فإننا نُلاحظ هذه المسألة عندما ننظر إلى التمدّن في مدن الخليج حيث يُستخدم الحيّز الحضري كتقنيّة للسيطرة.
م.ف.: إحدى الأسئلة التي تحاول سلسلتنا التعمّق في الإجابة عليها هي: ما هو احتمال وجود مجتمع حضري في هذه المدن الخليجيّة فيما لو كانت مبنيّة على طبقات تفصل بين العمارة والتخطيط الحضري؟
أ.ك.: بالنسبة لي، فالأمر يشغل تفكيري حقاً. فلو صُمّمتْ هذه المدن منذ عقود عديدة وحتى يومنا هذا لإبعاد الناس عن بعضهم البعض وإبقائهم في ما يُسمّى "الصناديق" لمنع الشعور بالمجتمع، وبالمصير المشترك، وبالتعاون، وبالملكيّة للمدينة؛ وهذا ما أقترحه (وقد اقترحه العديد من الآخرين)، فإن هذه المدن ستمنع إمكانيّة توليد المصير المشترك والشعور الجماعي بالملكيّة للمدينة.
وهذا في اعتقادي له آثار حقيقيّة طويلة المدى في حال كانت مسألة المشاركة الفعّالة للمواطنين ذات اهتمام. وحتى من منظور اقتصادي، إذا كنّا نُريد أن يأتي الناس إلى هذه المدن ويعملوا لسنوات عديدة، فنحن نُريد لهم أن يشعروا بإحساس الملكيّة، وأن يستثمروا في تلك المدن عندما يُصبحون في الخمسين والستين من عمرهم. ولهذا عواقب اجتماعيّة واقتصاديّة أكبر: حيث لا يشعر الناس أن مصيرهم الشخصي مرتبط بما يحدث لدبي أو الشارقة أو الكويت أو البحرين أو عبدان؛ فهم مجرّد مهاجرين سيأتون لمدة 10 أو 15 أو 20 أو ربما حتى 40 سنة، لكنهم مرتبطون في النهاية بمكان آخر. وبالتالي فهناك نوعٌ حقيقيٌ من الآثار المقلقة.
م.ف.: هل يمكننا أن نذهب إلى حدّ القول إن المجتمعات المغلقة ومساكن العمل هي بالتالي هياكل أو آثار متشابهة من نفس الموروثات الإمبرياليّة والرأسماليّة؟
أ.ك.: هذا ما أريد أنا وأليكس بودكراس أن نناقشه في تلك المقالات. فعند النظر إلى المسألة من منظور الفترة الزمنيّة الطويلة فهناك مجموعة معيّنة من الموروثات والمسارات المتبعة. وفي حين أننا قد نرغب في محو التاريخ، سواء كعلماء أو مخطّطين حضريين، أو ربما قادة سياسيين؛ وقد نرغب في تجاهل هذا الماضي - هذا النوع من الماضي من عالم المحيط الهندي العالمي - ولكن مع ذلك، فإن الماضي موجود معنا. وأعتقد أن مدن الشركات هذه موجودة معنا أحياناً بطرق مباشرة تماماً.
وكما تعلمين، إحدى طرق التفكير في إمكانيات مستقبل بديل، إذا فهمتُ سؤالك بشكل صحيح، هي أن هناك اهتماماً متزايداً بمدن الموانئ القديمة ومراكز المدن القديمة. ويُركّز جزء من هذا الاهتمام على تحويل مراكز المدن هذه إلى متاحف في الهواء الطلق، ومواقع تراثيّة - نوع مُنقّى للغايّة من مفهوم التاريخ - لإضفاء الشرعية على عائلات معيّنة، وحكام معيّنين، وفئات معيّنة. ويمكن لهذا أن يكون موضع تساؤل وانتقاد. ومما أفهمه من أُناس مثل فرح النقيب وآخرين، هو أن بعض الشباب، وخاصةً في شبه الجزيرة العربيّة، يُعيدون قراءة هذا التاريخ ويهتمّون بهذه المراكز الحضريّة القديمة كمكان يعجّ بالإمكانيّات: إمكانيّة نوع جديد ومختلف من العولمة، ونوع مختلف من التواصل الاجتماعي، إذا صح التعبير. لذلك، أعتقد أننا إذا أمعنا التفكير في مراكز المدن القديمة من الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ونظرنا إليها ليس فقط كمتاحف صرفة للحفاظ على التراث، ولكن كأماكن حقيقيّة للعيش - حيث يعيش العمال المهاجرون والمكان الذي يحتضن منازل أجداد سكانها، وحيث يمكن أن تُوجد الأسواق والمتاجر القديمة واستوديوهات الفنانين، وتُنظّم فيها جولات السير على الأقدام. لذلك، فإنها مساحة أكثر وضوحاً، حيث يُقرّر الأشخاص الذين يعيشون في المدن كيفيّة تطوير تلك المدن للمستقبل وليس فقط كطريقة للحفاظ عليها كما لو أنها ماضِ متحجّر.
م.ف.: أشعر أن هناك لحظات يمكننا أن نبدو فيها جميعاً مغمورين بالشعور بالحنين أو الرومانسية إلى حد ما حول هذا الماضي العالمي. أعني، إنه مُغرٍ للغاية ولكنه حقيقي أيضاً، أليس كذلك؟ إنّه جزءٌ عالمي متعدّد الثقافات، وهو بطبيعته، كما تقول، متشابك بعمق في منطقة برمّتها على امتداد سنوات.
واحدة من مقالاتكَ المفضّلة بالنسبة لي، هي "الجغرافيا السياسيّة وأصلُ المناطق الحرّة" The Geopolitics and the Genealogy of Free Zones، والتي أعتقد أنكَ كتبتها في عام 2010، حيث دفعتني حقًا للتفكير فيما إذا كانت هذه المناطق الحرّة، كمناطق موجودة ضمن مدينة ما، وتحديداً مدينة ميناء قديمة، متأصّلة أيضاً بنفس القوة لممارسة تلك السيطرة السياسيّة والاقتصاديّة على الناس هناك. ففي الأساس، هي أماكن لحركة السلع، ولكن هناك أيضاً بناء وعمران يحجب المدينة عن الماء.
أ.ك.: أعتقد أن هناك قضيتين تُشيرين إليهما هنا. من ناحية فإن نموذج منطقة التجارة الحرّة هذا هو شكلٌ آخرٌ من التقسيم والتجزئة إلى قوانين مختلفة، وهيئات حاكمة مختلفة، أليس كذلك؟ ومن خلال إنشاء سلطة منطقة التجارة الحرّة، فإنكِ تُنشئين حكومةً صغيرةً منفصلة كاملة لها قوانينها الخاصة، ولا سيما قوانين جمركيّة أكثر استرخاءً، وقوانين عمل وما إلى ذلك. وأنتِ هنا تُقسّمين الاقتصاد، ولكن أيضاً القوى العاملة إلى فئتين مختلفتين. لذلك، فإنّ هذا يجعل من الأصعب خلق شعور بالمجتمع، والجماعة، والمجتمع المحلي، والمصير المشترك. وفي هذه المقالة، كانت إحدى الأشياء التي أحاول نقلها هو أنه عندما ننظر إلى اثنتين من أكثر مناطق التجارة الحرّة شهرة في المنطقة، فإن أحدهما ناجحة والأخرى أقلّ نجاحاً. حيث نُفكّر في جبل علي في دبي في الإمارات العربيّة المتحدة، ولكن من المهم أن نتذكّر كيش (جزيرة كيش قبالة إيران). فعندما ننظر إلى هذين المثالين، فقد كانا من المشاريع المبكّرة جداً؛ حيث يعود تخطيطهما إلى الستينيات في حالة كيش والسبعينيات في حالة جبل علي. ومرّة أخرى، كانت هذه طريقة أخرى بالنسبة لي للتأكيد على تطوير مناطق التجارة الحرّة من قبل الممارسين ورجال الأعمال في الخليج في نفس الوقت مثل أي مكان آخر. المسألة ليست أن الخليج كان يلحق بركب فكرة التجارة الحرّة بمعنى ما، فقد كانت إيران والإمارات العربيّة المتحدة سبّاقتين تقريباً.
إذاً، هذه مسألة، ولكن المسألة الأخرى التي تطرحينها والتي أُثيرتْ في تلك المقالة وبعض المؤلفات الأخرى، والتي شغلتْ تفكير لاله خليلي أيضاً – ألا وهي هو ظهور نوع من الثورة في مجال الشحن في نفس الوقت في الخمسينيات والستينيات. وعند التفكير في مدن الموانئ القديمة التي تُبنى حول الموانئ، فإننا نُفكّر بالسفن ذات الأحجام المختلفة والأشكال المختلفة للعمالة - مرة أخرى، لا يمكننا أن ننسى العبيد وما إلى ذلك، وغواصي اللؤلؤ، وبُناة السفن – التي تتجمّع حول الميناء، حيث تنمو المدينة برمّتها من الميناء. وهذا هو فهمنا الكلاسيكي لمدن الموانئ. ولكن، مع سفن الحاويات الكبيرة هذه، والتي تتطلّب مرافق كبيرة جداً، فإننا سنكون أمام نوع من انفصال الميناء عن المدينة، كما أشرتِ. ولكن، هناك طريقة أخرى للتفكير في الأمر، حيث أشرتُ أنا والعديد من الآخرين إلى أنه على مدار الخمسين عاماً الماضيّة، أدارتْ مدن الموانئ التاريخيّة ظهرها للبحر.
وعند النظر إلى نمو دبي وأبو ظبي والكويت والبحرين، فإن أجمل المجتمعات المسوّرة هي تلك البعيدة في الداخل باتجاه الصحراء، والناس يكادون لا يرون البحر ولا يشمّون رائحته، كما أن حياتهم لا تعتمد على البحر بالطريقة التي عاش بها أجدادهم. وكانت هذه المدن تُسمّى "ملكات الخليج" و"ملكات المحيط الهندي". ولهذه الأماكن ومجتمعاتها الآن علاقة مختلفة جدًا بهذه الموانئ. فهي تعتمد عليها في الاستيراد والتصدير بالطبع، لذا فهي ما تزال تعتمد عليها اقتصادياً وحتى في الحصول على مياه الشرب وتحليّة المياه وما إلى ذلك، لكن يمكنها تجاهل البحر لأيام وأسابيع متتاليّة لأن سكانها يعيشون في سياراتهم ومجتمعاتهم المسوّرة ومبانيهم الشاهقة.
مهناز فانسي: كسؤال أخير، أودّ معرفة المزيد عن كتابكَ القادم.
أرانج كيشافارزيان: حسناً، بعض هذه المقالات التي أشرتِ إليها هي لبنات بناء فصول هذا الكتاب الذي يُحاول تصوير تاريخ الخليج على امتداد فترة زمنية طويلة، إلا أنه يتحرّك أيضاً باستمرار ذهاباً وإياباً ليُسلّط الضوء على الساحل الشمالي والساحل الجنوبي، كما يقرأ علاقة إيران بالكويت ودبي. وبالنسبة لي، فإنني أرى أنه لا يمكننا سرد التاريخ أو النظر بجديّة إلى الكويت دون النظر إلى البصرة وعبادان، والعكس صحيح. وبالمثل، لا يمكننا سرد تاريخ دبي دون النظر إلى بندر لنجة أو بستك. لذلك، يستخدم هذا الكتاب نوعاً من العدسة التحليليّة لسرد التاريخ الأكبر للخليج من منظور المقاييس الجغرافيّة العالميّة، والوطنيّة، والحضريّة المختلفة، وحتى على مستوى المهاجر الفردي الذي ينتقل ذهاباً وإياباً.
(الهوية البصرية بإذن: ترينالي الشارقة للعمارة، الصورة بإذن: أرانج كيشافارزيان، تقنية التسجيل الصوتي: Blue Dot Sessions)